فصل: الآية رقم ‏(‏83‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 الآية رقم ‏(‏61‏)‏

‏{‏ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ومن المنافقين قوم يؤذون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالكلام فيه قيل‏:‏ هو عتاب بن قشير، وقيل هو نبتل بن الحارث ويقولون ‏{‏هو أذن‏}‏ أي من قال له شيئاً صدّقه فينا، ومن حدثه صدّقه فإذا جئناه وحلفنا له صدقنا، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏قل أذن خير لكم‏}‏ أي هو أذن يعرف الصادق من الكاذب، ‏{‏يؤمن باللّه ويؤمن للمؤمنين‏}‏ أي ويصدق المؤمنين، ‏{‏ورحمة للذين آمنوا منكم‏}‏ أي وهو حجة على الكافرينن ولهذا قال‏:‏ ‏{‏والذين يؤذون رسول اللّه لهم عذاب أليم‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏62 ‏:‏64‏)‏

‏{‏ حلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ‏.‏ ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم ‏}‏

قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن رجلاً من المنافقين قال‏:‏ واللّه إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا، وإن كان ما يقول محمد حقاً، لهم شر من الحمير، قال‏:‏ فسمعها رجل من المسلمين فقال‏:‏ واللّه إن ما يقول محمد لحق، ولأنت أشر من الحمار، قال‏:‏ فسعى بها الرجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأخبره فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال‏:‏ ‏(‏ما حملك على الذي قلت‏؟‏‏)‏ فجعل يلتعن ويحلف باللّه ما قال ذلك، وجعل الرجل المسلم يقول‏:‏ اللهم صدّق الصادق وكذب الكاذب، فأنزل اللّه الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يعلموا أنه من يحادد اللّه ورسوله‏}‏ أي ألم يتحققوا أنه من حادّ اللّه عزَّ وجلَّ أي شاقه وحاربه وخالفه ‏{‏فأن له نار جهنم خالدا فيها‏}‏ أي مهاناً معذباً، و‏{‏ذلك الخزي العظيم‏}‏ أي وهذا هو الذل العظيم والشقاء الكبير‏.‏

 الآية رقم ‏(‏64‏)‏

‏{‏ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزؤوا إن الله مخرج ما تحذرون ‏}‏

قال مجاهد‏:‏ يقولون القول بينهم، ثم يقولون عسى اللّه أن لا يفشي علينا سرنا هذا، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به اللّه ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا اللّه بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير‏}‏، وقال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏قل استهزئوا إن اللّه مخرج ما تحذرون‏}‏ أي إن اللّه سينزل على رسوله ما يفضحكم به ويبين له أمركم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج اللّه أضغانهم‏}‏، ولهذا قال قتادة‏:‏ كانت تسمى هذه السورة الفاضحة فضحت المنافقين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏65 ‏:‏ 66‏)‏

‏{‏ ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ‏.‏ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ‏}‏

قال رجل من المنافقين‏:‏ ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء؛ فرفع ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فجاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد ارتحل ناقته، فقال‏:‏ يا رسول اللّه إنما كنا نخوض ونلعب، فقال‏:‏ ‏{‏أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون - إلى قوله - كانوا مجرمين‏}‏ وإن رجليه لتسفعان الحجارة وما يلتفت إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو متعلق بسيف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذكره المديني عن محمد بن كعب القرظي وغيره ‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت ورجل من أشجع يقال له مخشى بن حمير يسيرون مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض‏:‏ أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً، واللّه لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال، إرجافاً وترهيباً للمؤمنين، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعمار بن ياسر‏:‏ ‏(‏أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فاسألهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل بلى قلتم كذا وكذا‏)‏ فانطلق إليهم عمار فقال لهم ذلك، فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت يا رسول اللّه‏:‏ إنما كنا نخوض ونلعب، فقال مخشى بن حمير‏:‏ يا رسول اللّه قعد بي اسمي واسم أبي، فكان الذي عُفي عنه في هذه الآية مخشى بن حمير فتسمى عبد الرحمن، وسأل اللّه أن يقتل شهيداً لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة

‏"‏رواه ابن إسحاق‏"‏‏.‏ وقال قتادة بينما النبي صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك وركبٌ من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا‏:‏ يظن هذا أن يفتح قصور الروم وحصونها‏؟‏ هيهات هيهات، فأطلع اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم على ما قالوا، فقال‏:‏ ‏(‏عليَّ بهؤلاء النفر‏)‏ فدعاهم فقال‏:‏ ‏(‏قلتم كذا وكذا‏)‏، فحلفوا ما كنا إلا نخوض ونلعب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم‏}‏ أي بهذا المقال الذي استهزأتم به، ‏{‏إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة‏}‏ أي لا يعفي عن جميعكم ولا بد من عذاب بعضكم ‏{‏بأنهم كانوا مجرمين‏}‏ أي مجرمين بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏67 ‏:‏ 68‏)‏

‏{‏ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون ‏.‏ وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم ‏}‏

يقول تعالى منكراً على المنافقين الذين هم على خلاف صفات المؤمنين، ولما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كان هؤلاء ‏{‏يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم‏}‏ أي عن الإنفاق في سبيل اللّه، ‏{‏نسوا الله‏}‏ أي نسوا ذكر اللّه ‏{‏فنسيهم‏}‏ أي

عاملهم معاملة من نسيهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا‏}‏، ‏{‏إن المنافقين هم الفاسقون‏}‏ أي الخارجون عن طريق الحق الداخلون في طريق الضلالة، وقوله‏:‏ ‏{‏وعد اللّه المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم‏}‏ أي على هذا الصنيع الذي ذكر عنهم، ‏{‏خالدين فيها‏}‏ أي ماكثين فيها مخلدين هم والكفار ‏{‏هي حسبهم‏}‏ أي كفايتهم في العذاب، ‏{‏ولعنهم اللّه‏}‏ أي طردهم وأبعدهم ‏{‏ولهم عذاب مقيم‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏69‏)‏

‏{‏ كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ أصاب هؤلاء من عذاب اللّه تعالى في الدنيا والآخرة كما أصاب من قبلهم، ‏{‏بخلاقهم‏}‏ قال الحسن‏:‏ بدينهم، ‏{‏وخضتم كالذي خاضوا‏}‏ أي في الكذب والباطل، ‏{‏أولئك حبطت أعمالهم‏}‏ أي بطلت مساعيهم فلا ثواب لهم عليها لأنها فاسدة، ‏{‏في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون‏}‏ لأنهم لم يحصل لهم عليها ثواب‏.‏ عن ابن عباس قال‏:‏ ما أشبه الليلة بالبارحة، ‏{‏كالذين من قبلكم‏}‏ هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم، والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه ‏"‏أخرجه ابن جرير عن عطاء بن عكرمة عن ابن عباس‏"‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده لتتبعنّ سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، وباعاً بباع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه‏)‏، قالوا‏:‏ ومن هم يا رسول اللّه‏؟‏ أهل الكتاب‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فمن‏؟‏‏)‏، قال أبو هريرة‏:‏ الخلاق الدين، ‏{‏وخضتم كالذي خاضوا‏}‏ قالوا‏:‏ يا رسول اللّه كما صنعت فارس والروم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فهل الناس إلا هم‏؟‏‏)‏ ‏"‏قال ابن كثير‏:‏ وهذا الحديث له شاهد في الصحيح‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏70‏)‏

‏{‏ ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ‏}‏

يقول تعالى واعظاً لهؤلاء المنافقين المكذبين للرسل ‏{‏ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم‏}‏ أي ألم تخبروا خبر من كان قبلكم من الأمم المكذبة للرسل، ‏{‏قوم نوح‏}‏ وما أصابهم من الغرق العام لجميع أهل الأرض، إلا من آمن بعبده ورسوله نوح عليه السلام، ‏{‏وعاد‏}‏ كيف أهلكوا بالريح العقيم لما كذبوا هوداً عليه السلام، ‏{‏وثمود‏}‏ كيف أخذتهم الصيحة لما كذبوا صالحاً عليه السلام وعقروا الناقة، ‏{‏وقوم إبراهيم‏}‏ كيف نصره اللّه عليهم وأيده بالمعجزات الظاهرة عليهم وأهلك ملكهم نمرود لعنه اللّه، ‏{‏وأصحاب مدين‏}‏ وهم قوم شعيب عليه السلام وكيف أصابتهم

الرجفة وعذاب يوم الظلة، ‏{‏والمؤتفكات‏}‏ قوم لوط وقد كانوا يسكنون في مدائن، وقال ‏{‏والمؤتفكة أهوى‏}‏، والغرض أن اللّه تعالى أهلكهم عن آخرهم بتكذيبهم نبي اللّه لوطاً عليه السلام، وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين، ‏{‏أتتهم رسلهم بالبينات‏}‏ أي بالحجج والدلائل القاطعات ‏{‏فما كان اللّه ليظلمهم‏}‏ أي بإهلاكه إياهم لأنه أقام عليهم الحجة بإرسال الرسل وإزاحة العلل، ‏{‏ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏ أي بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم الحق، فصاروا إلى ما صاروا إليه من العذاب والدمار‏.‏

 الآية رقم ‏(‏71‏)‏

‏{‏ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ‏}‏

لما ذكر تعالى صفات المنافقين الذميمة عطف بذكر صفات المؤمنين المحمودة، فقال‏:‏ ‏{‏والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض‏}‏ أي يتناصرون ويتعاضدون، كما جاء في الصحيح‏:‏ ‏(‏المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً‏)‏ وشبك بين أصابعه‏.‏ وفي الصحيح أيضاً‏:‏ ‏(‏مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏}‏، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة‏}‏ أي يطيعون اللّه ويحسنون إلى خلقه، ‏{‏ويطيعون اللّه ورسوله‏}‏ أي فيما أمر وترك ما عنه زجر، ‏{‏أولئك سيرحمهم اللّه‏}‏ أي سيرحم اللّه من اتصف بهذه الصفات، ‏{‏إن اللّه عزيز‏}‏ أي يعز من أطاعه، فإن العزة للّه ولرسوله وللمؤمنين، ‏{‏حكيم‏}‏ في قسمته هذه الصفات لهؤلاء، وتخصيصه المنافقين بصفاتهم المتقدمة فإن له الحكمة في جميع ما يفعله تبارك وتعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏72‏)‏

‏{‏ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ‏}‏

يخبر تعالى بما أعده للمؤمنين به والمؤمنات من الخيرات والنعيم المقيم في ‏{‏جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها‏}‏ أي ماكثين فيها أبداً، ‏{‏ومساكن طيبة‏}‏ أي حسنة البناء طيبة القرار، كما جاء في الصحيحين‏:‏ ‏(‏جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن‏)‏، وقال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن في الجنة مائة درجة أعدها اللّه للمجاهدين في سبيله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن‏)‏ ‏"‏أخرج الشيخان عن أبي هريرة‏"‏‏.‏ وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أهل الجنة ليتراؤون الغرف في الجنة كما ترون الكواكب في السماء‏)‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏ وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قلنا يا رسول اللّه حدثنا عن الجنة ما بناؤها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لبنة ذهب ولبنة فضة، وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم لا يبأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه‏)‏، وعند الترمذي عن علي رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن في الجنة لغرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها‏)‏ فقام أعرابي فقال‏:‏ يا رسول اللّه لمن هي‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لمن طيَّب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام‏)‏، وعن أسامة بن زيد قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألا هل من مشمر إلى الجنة‏؟‏ فإن الجنة لا حظر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سليمة، وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة، في محلة عالية بهية‏)‏، قالوا‏:‏ نعم يا رسول اللّه نحن المشمرون لها، قال‏:‏ ‏(‏قولوا إن شاء اللّه‏)‏، فقال القوم‏(‏ إن شاء اللّه ‏"‏رواه ابن ماجه عن أسامة بن زيد‏"‏،

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورضوان من اللّه أكبر‏}‏ أي رضا اللّه عنهم أكبر وأجل وأعظم، ممّا هم فيه من النعيم، كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن اللّه عزَّ وجلَّ يقول لأهل الجنة‏:‏ يا أهل الجنة، فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول‏:‏ هل رضيتم‏؟‏ فيقولون‏:‏ وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك‏؟‏ فيقول‏:‏ ألا أعطيكم أفضل من ذلك‏؟‏ فيقولون‏:‏ يا رب وأي شيء أفضل من ذلك‏؟‏ فيقول‏:‏ أحل لكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً‏)‏ ‏"‏رواه الشيخان ومالك عن أبي سعيد الخدري‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏73 ‏:‏ 74‏)‏

‏{‏ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ‏.‏ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ‏}‏

أمر تعالى رسوله صلى اللّه عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، كما أمره بأن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين وأخبره أن مصير الكفار والمنافقين إلى النار في الدار الآخرة، وقد تقدم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال‏:‏ بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأربعة أسياف‏:‏ سيف للمشركين ‏{‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين‏}‏، وسيف للكفار أهل الكتاب ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر‏}‏ وسيف للمنافقين ‏{‏جاهد الكفار والمنافقين‏}‏، وسيف للبغاة ‏{‏فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر اللّه‏}‏،

وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق ‏.‏ قال ابن مسعود ‏{‏جاهد الكفار والمنافقين‏}‏ قال‏:‏ بيده قإن لم يستطع فليكفهر في وجهه، وقال ابن عباس‏:‏ أمره اللّه تعالى بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان، وأذهب الرفق عنهم، وقال الضحاك‏:‏ جاهد الكفار بالسيف، واغلظ على المنافقين بالكلام وهو مجاهدتهم‏.‏ وقال الحسن وقتادة ومجاهد‏:‏ مجاهدتهم إقامة الحدود عليهم؛ ولا منافاة بين هذه الأقوال، لأنه تارة يؤاخذهم بهذا وتارة بهذا بحسب الأحوال واللّه أعلم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يحلفون باللّه ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم‏}‏ قال قتادة‏:‏ نزلت في عبد اللّه بن أبي وذلك أنه اقتتل رجلان، جهني وأنصاري، فعلا الجني على الأنصاري، فقال عبد اللّه للأنصار ألا تنصرون أخاكم‏؟‏ واللّه ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل‏:‏ سمِّن كلبك يأكلك، وقال‏:‏ ‏{‏لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل‏}‏، فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأرسل إليه فسأله، فجعل يحلف باللّه ما قاله، فأنزل اللّه فيه هذه الآية‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالساً في ظل شجرة، فقال‏:‏ ‏(‏إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم - بعيني الشيطان - فإذا جاء فلا تكلموه‏)‏ فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق، فدعاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏علام تشتمني أنت وأصحابك‏؟‏‏)‏ فانطلق الرجل، فجاءه بأصحابه، فحلفوا باللّه ما قالوا حتى تجاوز عنهم، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏يحلفون بالله ما قالوا‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير الطبري عن ابن عباس‏"‏الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏وهموا بما لم ينالوا‏}‏ قيل أنزلت في الجلاس بن سويد، وذلك أنه همّ بقتل ابن امرأته حين قال لأخبرن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقيل‏:‏ في عبد اللّه بن أبيّ همَّ بقتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقد ورد أن نفراً من المنافقين هموا بالفتك بالنبي صلى اللّه عليه وسلم وهو في غزوة تبوك في بعض تلك الليالي في حال السير، وكانوا بضعة عشر رجلاً، قال الضحاك‏:‏ ففيهم نزلت هذه الآية، روى الحافظ البيهقي في كتاب دلائل النبوة عن حذيفة بن اليمان رضي اللّه عنه قال‏:‏ كنت آخذاً بخطام ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أقود به، وعمار يسوق الناقة، حتى إذا كنا بالعقبة، فإذا أنا باثني عشر راكباً قد اعترضوه فيها، قال‏:‏ فانتهرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وصرخ بهم، فولوا مدبرين، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هل عرفتم القوم‏؟‏‏)‏ قلنا‏:‏ لا يا رسول اللّه قد كانوا متلثمين، ولكنا قد عرفنا الركاب، قال‏:‏ ‏(‏هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة وهل تدرون ما أرادوا‏؟‏‏)‏ قلنا‏:‏ لا، قال‏:‏ ‏(‏أرادوا أن يزاحموا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في العقبة فليقوه منها‏)‏، قلنا يا رسول اللّه أفلا نبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا، أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمداً قاتل، حتى إذا أظهره اللّه أقبل عليهم يقتلهم‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما نقموا إلا أن أغناهم اللّه ورسوله من فضله‏}‏ أي وما للرسول عندهم ذنب إلا أن اللّه أغناهم ببركته ويمن سعادته، ولو تمت عليهم السعادة لهداهم اللّه لما جاء به كما قال صلى اللّه عليه وسلم للأنصار‏:‏ ‏(‏ألم أجدكم ضلاّلاً فهداكم اللّه بي‏؟‏ وكنتم متفرقين فألّفكم اللّه بي‏؟‏ وعالة فأغناكم اللّه بي‏؟‏‏)‏ كلما قال شيئاً‏:‏ قالوا‏:‏ اللّه ورسوله أمّن، وهذه الصيغة تقال حيث لا ذنب، كقوله‏:‏ ‏{‏وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله‏}‏ الآية، ثم دعاهم تبارك وتعالى إلى التوبة فقال‏:‏ ‏{‏فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم اللّه عذابا أليما في الدنيا والآخرة‏}‏ أي وإن يستمروا على طريقهم يعذبهم اللّه عذاباً أليماً في الدنيا‏:‏ أي بالقتل والهم والغم، والآخرة‏:‏ أي بالعذاب والنكال والهوان والصغار ‏{‏وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير‏}‏ أي وليس لهم أحد يسعدهم ولا ينجدهم، لا يحصِّلُ لهم خيراً، ولا يدفع عنهم شراً‏.‏

 الآية رقم ‏(‏75 ‏:‏ 78‏)‏

‏{‏ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ‏.‏ فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون ‏.‏ فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ‏.‏ ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ومن المنافقين من أعطى اللّه عهده وميثاقه لئن أغناه اللّه من فضله ليصدقن من ماله وليكونن من الصالحين، فما وفى بما قال، ولا صدق فيما ادعى، فأعقبهم هذا الصنيع نفاقاً سكن في قلوبهم إلى يوم يلقون اللّه عزَّ وجلَّ يوم القيامة عياذاً باللّه من ذلك، وقد ذكر كثير من المفسرين أن سبب نزول هذه الآية الكريمة في ثعلبة بن حاطب الأنصاري، وقد ورد فيه حديث رواه ابن جرير عن أبي أمامة الباهلي عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ادع اللّه أن يرزقني مالاً، قال، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه‏)‏ قال، ثم قال مرة أخرى، فقال‏:‏ ‏(‏أما ترضى أن تكون مثل نبي اللّه‏؟‏ فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسير الجبال معي ذهباً

وفضة لسارت‏(‏ قال‏:‏ والذي بعثك بالحق لئن دعوت اللّه فرزقني مالاً لأعطينَّ كل ذي حق حقه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏)‏اللهم ارزق ثعلبة مالاً‏(‏، قال‏:‏ فاتخذ غنماً، فنمت كما ينمى الدود، فضاقت عليه المدينة، فتنحى عنها، فنزل وادياً من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت، فتنحّى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمي كما ينمي الدود، حتى ترك الجمعة، فطفق يتلقي الركبان يوم الجمعة ليسألهم عن الأخبار، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما فعل ثعلبة‏؟‏‏)‏ فقالوا يا رسول اللّه اتخذ غنماً فضاقت عليه المدينة فأخبروه بأمره، فقال‏:‏ ‏(‏يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة‏)‏، وأنزل اللّه عزَّ وجلَّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ الآية، ونزلت فرائض الصدقة، فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلين على الصدقة من المسلمين، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين، وقال لهما‏:‏ ‏(‏مرّا بثعلبة وبفلان - رجل من بني سليم - فخذا صدقاتهما‏)‏، فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة، وأقرآه كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال‏:‏ ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، وما أدري ما هذا‏!‏ انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليَّ، فانطلقا، وسمع بهما السلمي، فنظر إلى خيار أسنان إبله، فعزلها للصدقة، ثم استقبلهما بهما، فلما رأوها، قالوا‏:‏ ما يجب عليك هذا، وما نريد أن نأخذ هذا منك، فقال‏:‏ بلى فخذوها فإن نفسي بذلك طيبة، فأخذاها منه، ومرا على الناس، فأخذا الصدقات، ثم رجعا إلى ثعلبة فقال‏:‏ أروني كتابكما، فقرأه فقال‏:‏ ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية‏!‏ انطلقا حتى أرى رأيي، فانطلقا حتى أتيا النبي صلى اللّه عليه وسلم، فلما رآهما قال‏:‏ ‏(‏يا ويح ثعلبة‏)‏، قبل أن يكلمهما، ودعا للسلمي بالبركة، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ومنهم من عاهد اللّه لئن آتانا من فضله

لنصدقن‏}‏ الآية‏.‏ فهلك ثعلبة في خلافة عثمان ‏"‏أخرجه ابن جرير بتمامه وفيه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يقبل صدقته في حياته فلما قبض صلى اللّه عليه وسلم عرضها على أبي بكر فلم يقبلها ثم عرضها على عمر فلم يقبلها حتى هلك في زمن عثمان، ورواه أيضاً ابن أبي حاتم بنحوه‏"‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بما أخلفوا اللّه ما وعدوه‏}‏ الآية، أي أعقبهم النفاق في قلوبهم بسبب إخلافهم الوعد وكذبهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يعلموا أن اللّه يعلم سرهم ونجواهم‏}‏ الآية، يخبر تعالى أنه يعلم السر وأخفى وأنه أعلم بضمائرهم، وإن أظهروا أنه إن حصل لهم أموال تصدقوا

منها وشكروا عليها، فإن اللّه أعلم بهم من أنفسهم، لأنه تعالى علام الغيوب، أي يعلم كل غيب وشهادة وكل سر ونجوى، ويعلم ما ظهر وما بطن‏.‏

 الآية رقم ‏(‏79‏)‏

‏{‏ الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ‏}‏

وهذا أيضاً من صفات المنافقين لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جيمع الأحوال، وإن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا؛ هذا مراء، وأن جاء بشيء يسير قالوا‏:‏ إن اللّه لغني عن صدقة هذا، كما روى البخاري عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال‏:‏ لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل أي نؤاجر أنفسنا في الحمل، وفي رواية عنده في التفسير‏:‏ نتحامل، أي يحمل بعضنا لبعض بالأجرة على ظهورنا، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا‏:‏ مراء، وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا‏:‏ إن اللّه لغني عن صدقة هذا، فنزلت‏:‏ ‏{‏الذين يلمزون المطوعين‏}‏ الآية‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام، فقال بعض المنافقين‏:‏ واللّه ما جاء عبد الرحمن بما جاء إلا رياء، وقالوا‏:‏ إن اللّه ورسوله لغنيان عن هذا الصاع‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ كان من المطوعين من المؤمنين في الصدقات عبد الرحمن بن عوف تصدق بأربعة آلاف درهم، و عاصم بن عدي أخو بني العجلان، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رغب في الصدقة وحض عليها، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف، وقام عاصم بن عدي وتصدق بمائة وسق من تمر، فلمزوهما وقالوا‏:‏ ما هذا إلا رياء، وكان الذي تصدق بجهده أبو عقيل حليف بني عمرو ابن عوف، أتى بصاع من تمر فأفرغه في الصدقة، فتضاحكوابه، وقالوا‏:‏ إن اللّه لغني عن صاع أبي عقيل‏.‏ وقال الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثاً‏)‏، قال‏:‏ فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال‏:‏ يا رسول اللّه عندي أربعة آلاف، ألفين أقرضهما ربي وألفين لعيالي، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بارك اللّه لك فيما أعطيت وبارك لك فيما أمسكت‏)‏ وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر، فقال يا رسول اللّه‏:‏ أصبت صاعين من تمر، صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي، قال‏:‏ فلمزه المنافقون وقالوا‏:‏ ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياء، وقالوا‏:‏ ألم يكن اللّه ورسوله غنيين عن صاع هذا‏؟‏ فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم‏}‏ ‏"‏أخرج الحافظ البزار‏"‏الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏فيسخرون منهم سخر اللّه منهم‏}‏ هذا من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين، لأن الجزاء من

جنس العمل، فعاملهم معاملة من سخر منهم انتصاراً للمؤمنين في الدنيا، وأعد للمنافقين في الآخرة عذاباً أليماً، لأن الجزاء من جنس العمل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏80‏)‏

‏{‏ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين ‏}‏ يخبر تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم بأن هؤلاء المنافقين ليسوا أهلاً للاستغفار، وأنه لو استغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر اللّه لهم؛ وقد قيل‏:‏ إن السبعين إنما ذكرت حسماً لمادة الاستغفار لهم، لأن العرب في أساليب كلامها تذكر السبعين في مبالغة كلامها، ولا تريد التحديد بها، ولا أن يكون ما زاد عليها بخلافها؛ وقيل‏:‏ بل لها مفهوم كما روي، لما نزلت هذه الآية قال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن ربي قد رخص لي فيهم، فواللّه لأستغفرن لهم أكثر من سبعين مرة لعل اللّه أن يغفر لهم‏)‏، وقال الشعبي‏:‏ لما ثقل عبد اللّه بن أبي انطلق ابنه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ إن أبي يحتضر، فأحب أن تشهده وتصلي عليه، فانطلق معه حتى شهده، وألبسه قميصه، وصلى عليه، فقيل له‏:‏ أتصلي عليه‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن اللّه قال‏:‏ ‏{‏إن تستغفر لهم سبعين مرة‏}‏، ولأستغفرن لهم سبعين وسبعين وسبعين‏)‏ ‏"‏رواه ابن جرير بسنده‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏81 ‏:‏ 82‏)‏

‏{‏ فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون ‏.‏ فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون ‏}‏

يقول تعالى ذاماً للمنافقين المتخلفين عن صحابة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك، وفرحوا بقعودهم بعد خروجه ‏{‏وكرهوا أن يجاهدوا‏}‏ معه ‏{‏بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه وقالوا‏}‏ - أي بعضهم لبعض - ‏{‏لا تنفروا في الحر‏}‏، وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر، عند طيب الظلال والثمار، فلهذا قالوا‏:‏ ‏{‏لا تنفروا في الحر‏}‏، قال اللّه تعالى لرسوله صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم ‏{‏نار جهنم‏}‏ التي تصيرون إليها بمخالفتكم ‏{‏أشد حرا‏}‏ مما فررتم منه من الحر بل أشد حراً من النار، كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نار بني آدم التي توقدنها جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم‏)‏، فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه إن كانت لكافية، فقال‏:‏ ‏(‏فضّلت عليها بتسعة وستين جزءاً‏)‏ ‏"‏رواه البخاري ومسلم ومالك عن أبي هريرة‏"‏، وعن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم وضربت في البحر مرتين، ولولا ذلك ما جعل اللّه فيها منفعة لأحد‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد قال ابن كثير‏:‏ إسناده صحيح‏"‏‏.‏ وروى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أوقد اللّه على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء كالليل المظلم‏)‏ وعن أنس قال‏:‏ تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏{‏نارا وقودها الناس والحجارة‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى احمرت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء كالليل لا يضيء لهبها‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن مردويه عن أنس بن مالك‏"‏، والأحاديث والآثار النبوية في هذا كثيرة‏.‏ وقال تعالى في كتابه العزيز‏:‏ ‏{‏كلا إنها لظى نزاعة للشوى‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب‏}‏، وقال تعالى هنا‏:‏ ‏{‏قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون‏}‏ ‏"‏في اللباب‏:‏ أخرج ابن جرير‏:‏ خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، في حر شديد، إلى تبوك، فقال رجل من بني سلمة‏:‏ لا تنفروا في الحر، فنزلت‏:‏ ‏{‏قل نار جهنم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏"‏أي أنهم لو يفقهون ويفهمون لنفروا مع الرسول في سبيل اللّه في الحر، ليتقوا به من حر جهنم الذي هو أضعاف أضعاف هذا، ولكنهم كما قال الشاعر‏:‏

* كالمستجير من الرمضاء بالنار *

ثم قال تعالى جل جلاله متوعداً هؤلاء المنافقين على صنيعهم هذا‏:‏ ‏{‏فليضحكوا قليلا‏}‏ الآية، قال ابن عباس‏:‏ الدنيا قليل، فليضحكوا فيها ما شاءوا، فإذا انقطعت الدنيا وصاروا إلى اللّه عزَّ وجلَّ استأنفوا بكاء لا ينقطع أبداً، وقال الحافظ الموصلي عن أنس بن مالك قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم، كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون، فلو أن سفناً أزجيت فيها لجرت‏)‏ ‏"‏رواه ابن ماجه والحافظ الموصلي‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏83‏)‏

‏{‏ فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين ‏}‏

يقول تعالى آمراً لرسوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏فإن رجعك اللّه‏}‏ أي ردك اللّه من غزوتك هذه ‏{‏إلى طائفة منهم‏}‏ قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلاً ‏{‏فاستأذنوك للخروج‏}‏‏:‏ أي معك إلى غزوة أخرى ‏{‏فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا‏}‏، أي تعزيزاً لهم وعقوبة، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنكم رضيتم بالقعود أول مرة‏}‏، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة‏}‏ الآية، فإن جزاء السيئة السيئة بعدها، كما أن ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقعدوا مع الخالفين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي الرجال الذين تخلفوا عن الغزاة، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏فاقعدوا مع الخالفين‏}‏ أي مع النساء، قال ابن جرير‏:‏ وهذا لا يستقيم لأن جمع النساء لا يكون بالياء والنون، ولو أريد النساء لقال‏:‏ فاقعدوا مع الخوالف أو الخالفات، ورجح قول ابن عباس رضي اللّه عنهما‏.‏

 الآية رقم ‏(‏84‏)‏

‏{‏ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ‏}‏

أمر اللّه تعالى رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يبرأ من المنافقين، وأن لا يصلي على أحد منهم إذا مات، وأن لا يقوم على قبره ليستغفر له أو يدعو له لأنهم كفروا باللّه ورسوله وماتوا عليه؛ وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه، وإن كان سبب نزول الآية في عبد اللّه بن أبي سلول رأس المنافقين‏.‏ كما قال البخاري عن نافع عن ابن عمر قال‏:‏ لما توفي عبد اللّه ابن أبي، جاء ابنه عبد اللّه بن عبد اللّه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فسأله أن يعيطه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول اللّه تصلي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما خيرني اللّه فقال‏:‏ ‏{‏استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر اللّه لهم‏}‏ وسأزيده على سبعين‏)‏، قال‏:‏ إنه منافق، قال‏:‏ فصلى عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ آية‏:‏ ‏{‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره‏}‏ ‏"‏أخرجه البخاري ومسلم‏"‏‏.‏

وعن عباس قال‏:‏ سمعت عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يقول‏:‏ لما توفي عبد اللّه بن أبي دعي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للصلاة عليه، فقام إليه، فلما وقف يريد الصلاة عليه تحولت حتى قمت في صدره، فقلت‏:‏ يا رسول اللّه أعلى عدو اللّه عبد اللّه بن أبي القائل يوم كذا وكذا - يعدّد أيامه - ‏؟‏ قال‏:‏ ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتبسم، حتى إذا أكثرت عليه قال‏:‏ ‏(‏أخّر عني يا عمر، إني خيرت فاخترت، قد قيل لي‏:‏ ‏{‏استغفر لهم‏}‏ الآية، لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت‏)‏، قال‏:‏ ثم صلى عليه، ومشى معه، وقام على قبره حتى فرغ منه، قال‏:‏ فعجبت من جرأتي على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، واللّه ورسوله أعلم، قال‏:‏ فواللّه ما كان يسيراً حتى نزلت هاتان الآيتان‏:‏ ‏{‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا‏}‏ الآية، فما صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعده على منافق، ولا قام على قبره حتى قبضه اللّه عزَّ وجلَّ ‏"‏رواه أحمد والترمذي وقال‏:‏ حسن صحيح‏"‏، وروى الإمام أحمد عن جابر قال‏:‏ لما مات عبد اللّه بن أبي أتى ابنه النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه إنك لم تأته لم نزل نعيّر بهذا، فأتاه النبي صلى اللّه عليه وسلم فوجده قد أدخل في حفرته، فقال‏:‏ ‏(‏أفلا قبل أن تدخلوه‏)‏، فأخرج من حفرته، وتفل عليه من ريقه من قرنه إلى قدمه وألبسه قميصه‏.‏ وقال البخاري‏:‏ أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم عبد اللّه بن أبي بعدما أدخل في قبره، فأمر به فأخرج، ووضع على ركبتيه، ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه، واللّه أعلم‏.‏

وقال قتادة‏:‏ أرسل عبد اللّه بن أبي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو مريض، فلما دخل عليه قال له النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أهلكك حب يهود‏)‏ قال‏:‏ يا رسول اللّه إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتؤنبني، ثم سأله عبد اللّه أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه

إياه وصلى عليه وقام على قبره، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير الطبري‏"‏الآية، ولهذا كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد نزول هذه الآية الكريمة عليه لا يصلي على أحد من المنافقين، ولا يقوم على قبره، كما قال قتادة‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا دعي إلى جنازة سأل عنها، فإن أثني عليها خيراً قام فصلى عليها، وإن كان غير ذلك قال لأهلها‏:‏ ‏(‏شأنكم بها‏)‏، ولم يصل عليها؛ وكان عمر بن الخطاب لا يصلي على جنازة من جهل حاله حتى يصلي عليها حذيفة بن اليمان لأنه كان يعلم أعيان المنافقين، قد أخبره بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؛ ولهذا كان يقال له‏:‏ صاحب السر الذي لا يعلمه غيره أي من الصحابة، ولما نهى اللّه عزَّ وجلَّ عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم للاستغفار لهم كان هذا الصنيع من أكبر القربات في حق المؤمنين فشرع ذلك، وفي فعله الأجر الجزيل، كما ثبت في الصحاح‏:‏ ‏(‏من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان‏)‏ قيل‏:‏ وما القيراطان‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أصغرهما مثل أُحُد‏)‏؛ وأما القيام عند قبر المؤمن إذا مات فروى أبو داود عن عثمان رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف على قبره وقال‏:‏ ‏(‏استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل‏)‏ ‏"‏أخرجه أبو داود في سننه‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏85‏)‏

‏{‏ ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ‏}‏

تقدم تفسير نظير هذه الآية الكريمة، وللّه الحمد والمنة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏86 ‏:‏ 87‏)‏

‏{‏ وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ‏.‏ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ‏}‏

يقول تعالى منكراً وذاماً للمتخلفين عن الجهاد، الناكلين عنه مع القدرة عليه، ووجود السعة والطول، واستأذنوا الرسول في القعود وقالوا‏:‏ ‏{‏ذرنا نكن مع القاعدين‏}‏ ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء، وهن الخوالف بعد خروج الجيش، فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس، وإذا كان أمن كانوا أكثر الناس كلاماً كما قال تعالى عنهم‏:‏ ‏{‏فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت، فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد‏}‏ أي علت ألسنتهم بالكلام الحاد القوي في الأمن، كما قال الشاعر‏:‏

أفي السلم أعياراً‏:‏ جفاء وغلظة * وفي الحرب أشباه النساء الفوارك‏؟‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وطبع على قلوبهم‏}‏ أي بسبب نكولهم عن الجهاد والخروج مع الرسول في سبيل اللّه، ‏{‏فهم لا يفقهون‏}‏ أي لا يفهمون ما فيه صلاح لهم فيفعلوه، ولا ما فيه مضرة لهم فيجتنبوه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏88 ‏:‏ 89‏)‏

‏{‏ لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون ‏.‏ أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم ‏}‏

لما ذكر تعالى ذنب المنافقين، بيّن ثناءه على المؤمنين وما لهم في آخرتهم فقال‏:‏ ‏{‏لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا‏}‏ لبيان حالهم ومآلهم، وقوله‏:‏ ‏{‏وأولئك لهم الخيرات‏}‏ أي في الدار الآخرة في جنات الفردوس والدرجات العلى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏90‏)‏

‏{‏ وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ‏}‏

ثم بيَّن تعالى حال ذوي الأعذار في ترك الجهاد الذين جاءوا إلى رسول اللّه صلى

اللّه عليه وسلم يعتذرون إليه، وهم من أحياء العرب ممن حول المدينة، قال ابن إسحاق‏:‏ وبلغني أنهم نفر من بني غفار، وهذا القول هو الأظهر روى الضحاك عن ابن عباس أنه كان يقرأ ‏{‏وجاء المعذرون‏}‏ بالتخفيف ويقول‏:‏ هم أهل العذر وقراءة الجمهور بالتشديد ، لأنه قال بعد هذا‏:‏ ‏{‏وقعد الذين كذبوا اللّه ورسوله‏}‏ أي لم يأتوا فيعتذروا، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وجاء المعذرون من الأعراب‏}‏ قال‏:‏ نفر من بني غفار، جاءوا فاعتذروا فلم يعذرهم اللّه؛ وكذا قال الحسن وقتادة‏:‏ ثم أوعدهم بالعذاب الأليم فقال‏:‏ ‏{‏سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏91 ‏:‏ 93‏)‏

‏{‏ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ‏.‏ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ‏.‏ إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ‏}‏

ثم بيَّن تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد معها على القتال، فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه، وهو الضعف في التركيب الذي لا يستطيع معه الجلاد في الجهاد، ومنه العمى والعرج ونحوهما؛ ولهذا بدأ به، ومنها ما هو عارض بسبب مرض في بدنه شغله عن الخروج في سبيل اللّه، أو بسبب فقر لا يقدر على التجهيز للحرب، فليس على هؤلاء حرج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم، ولم يرجفوا بالناس، ولم يثبطوهم، وهم محسنون في حالهم هذا؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم‏}‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ نزلت هذه الآية في عائذ ابن عمرو المزني، وروي عن زيد بن ثابت قال‏:‏ كنت أكتب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فكنت أكتب براءة، فإني لواضع القلم على أذني، إذ أمرنا بالقتال، فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينظر ما نزل عليه، إذ جاء أعمى فقال‏:‏ كيف بي يا رسول اللّه وأنا أعمى‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏ليس على الضعفاء‏}‏ الآية‏.‏ وقال ابن عباس في هذه الآية‏:‏ وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد اللّه بن

مغفل المزني، فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه احملنا، فقال لهم‏:‏ ‏(‏واللّه لا أجد ما أحملكم عليه‏)‏، فتولوا وهم يبكون، وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملاً، فلما رأى اللّه حرصهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه فقال‏:‏ ‏{‏ليس على الضعفاء‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فهم لا يعلمون‏}‏، وقال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم‏}‏ نزلت في بني مقرن من مزينة، كانوا سبعة نفر، فاستحملوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكانوا أهل حاجة، فقال‏:‏ ‏{‏لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون‏}‏‏.‏ وفي حديث أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن بالمدينة أقواماً ما قطعتم وادياً ولا سرتم سيراً

إلا وهم معكم‏)‏ قالوا‏:‏ وهم بالمدينة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم حبسهم العذر‏)‏ ‏"‏أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك‏"‏‏.‏ وعن جابر قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لقد خلفتم بالمدينة رجالاً ما قطعتم وادياً ولا سلكتم طريقاً إلا شركوكم في الأجر حبسهم المرض‏)‏ ‏"‏رواه أحمد ومسلم وابن ماجه‏"‏، ثم رد تعالى الملامة على الذين يستأذنون في القعود وهم أغنياء، وأنبهم في رضاهم بأن يكونوا مع النساء الخوالف في الرجال‏:‏ ‏{‏وطبع اللّه على قلوبهم فهم لا يعلمون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏94 ‏:‏ 96‏)‏

‏{‏ يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم ‏.‏ وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ‏.‏ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ‏.‏ ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ‏.‏ يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ‏}‏

أخبر تعالى عن المنافقين بأنهم إذا رجعوا إلى المدينة أنهم يعتذرون إليهم ‏{‏قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم‏}‏ لن نصدقكم ‏{‏قد نبأنا اللّه من أخباركم‏}‏ أي قد أعلمنا اللّه أحوالكم، ‏{‏وسيرى اللّه عملكم ورسوله‏}‏ أي سيظهر أعمالكم للناس في الدنيا، ‏{‏ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون‏}‏ أي فيخبركم بأعمالكم خيرها وشرها ويجزيكم عليها، ثم أخبر عنهم أنهم سيحلفون لكم معتذرين لتعرضوا عنهم، فلا تؤنبوهم، فأعرضوا عنهم احتقاراً لهم ‏{‏إنهم رجس‏}‏ أي خبث نجس بواطنهم واعتقادتهم، ومأواهم في آخرتهم جهنم، ‏{‏جزاء بما كانوا يكسبون‏}‏ أي من الآثام والخطايا، وأخبر أنهم إن رضوا عنهم بحلفهم لهم، ‏{‏فإن اللّه لا يرضى عن القوم الفاسقين‏}‏ أي الخارجين عن طاعة اللّه وطاعة رسوله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏97 ‏:‏ 99‏)‏

‏{‏ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ‏.‏ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ‏.‏ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم ‏}‏

أخبر تعالى أن في الأعراب كفاراً ومنافقين ومؤمنين، وأن كفرهم ونفاقهم أعظم من غيرهم وأشد، ‏{‏وأجدر‏}‏ أي أحرى ‏{‏ألا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله‏}‏، كما قال الأعمش‏:‏ جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند فقال الأعرابي‏:‏ واللّه إن حديثك ليعجبني، وإن يدك لتريبني، فقال زيد‏:‏ ما يريبك من يدي إنها الشمال‏؟‏ فقال الأعرابي‏:‏ واللّه ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال‏!‏ فقال زيد صدق اللّه‏:‏ ‏{‏الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله‏}‏، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عباس مرفوعاً‏"‏، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن سفيان الثوري به، وقال الترمذي‏:‏ حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الثوري‏.‏ ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث اللّه منهم رسولاً، وإنما كانت البعثة من أهل القرى، لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن، فهم ألطف أخلاقاً من الأعراب لما في طباع الأعراب من الجفاء، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت‏:‏ قدم ناس من الأعراب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا‏:‏ أتقبلون صبيانكم‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، قالوا‏:‏ لكنا واللّه ما نقبل،

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وأملك ‏"‏وفي البخاري أو أملك لك إن نزع اللّه من قلبك الرحمة‏"‏إن كان اللّه نزع منكم الرحمة‏)‏‏؟‏ وقال ابن نميرة‏:‏ ‏(‏من قلبك الرحمة‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والله عليم حكيم‏}‏ أي عليم بمن يستحق أن يعلمه الإيمان والعلم، ‏{‏حكيم‏}‏ فيما قسم بين عباده، لا يسأل عما يفعل لعلمه وحكمته، وأخبر تعالى أن منهم‏:‏ ‏{‏من يتخذ ما ينفق‏}‏ أي في سبيل اللّه ‏{‏مغرما‏}‏ أي غرامة وخسارة، ‏{‏ويتربص بكم الدوائر‏}‏ أي ينتظر بكم الحوادث والآفات، ‏{‏عليهم دائرة السوء‏}‏ أي هي منعكسة عليهم والسوء دائر عليهم، ‏{‏واللّه سميع عليم‏}‏ أي سميع لدعاء عباده، عليم بمن يستحق النصر ممن يستحق الخذلان، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن الأعراب من يؤمن باللّه واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند اللّه وصلوات الرسول‏}‏ هذا هو القسم الممدوح من الأعراب، وهم الذين يتخذون ما ينفقون في سبيل اللّه قربة يتقربون بها عند اللّه ويبتغون بذلك دعاء الرسول لهم، ‏{‏ألا إنها قربة لهم‏}‏ أي ألا إن ذلك حاصل لهم، ‏{‏سيدخلهم اللّه في رحمته إن اللّه غفور رحيم‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏100‏)‏

‏{‏ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ‏}‏

يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم بما أعد لهم من جنات النعيم، قال الشعبي‏:‏ السابقون الأولون من أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية، وقال الحسن وقتادة‏:‏ هم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقد أخبر اللّه العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر، والخليفة الأعظم أبا بكر رضي اللّه عنه، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم، عياذاً باللّه من ذلك، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي اللّه عنهم، وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي اللّه عنه، ويسبون من سبه اللّه ورسوله، ويوالون من يوالي اللّه، ويعادون من يعادي اللّه، ومهم متبعون لا مبتدعون، ويقتدون ولا يبتدون، وهؤلاء هم حزب اللّه المفلحون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏101‏)‏

‏{‏ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم ‏}‏

يخبر تعالى رسوله صلوات اللّه وسلامه عليه أن في أحياء العرب ممن حول المدينة منافقون، وفي أهل المدينة أيضاً منافقون، ‏{‏مردوا على النفاق‏}‏ أي مرنوا واستمروا عليه، ومنه يقال‏:‏ شيطان مريد ومارد، ويقال تمرد فلان على اللّه أي عتا وتجبر، وقوله‏:‏ ‏{‏لا تعلمهم نحن نعلمهم‏}‏ لا ينافي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم‏}‏، لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها، لا لأنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين؛ قال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏سنعذبهم مرتين‏}‏ يعني القتل والسبي، وقال في رواية‏:‏ بالجوع وعذاب القبر، ‏{‏ثم يردون إلى عذاب عظيم‏}‏، وقال الحسن البصري‏:‏ عذاب في الدنيا وعذاب في القبر، وقال ابن زيد‏:‏ أما عذاب الدنيا فالأموال والأولاد، وقرأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الحياة الدنيا‏}‏ فهذه المصائب لهم عذاب وهي للمؤمنين أجر، وعذاب في الآخرة في النار، ‏{‏ثم يردون إلى عذاب عظيم‏}‏ قال‏:‏ النار‏.‏

 الآية رقم ‏(‏102‏)‏

‏{‏ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم ‏}‏

لما بين تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغزو تكذيباً وشكاً، شرع في بيان حال المكذبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلاً مع إيمانهم وتصديقهم بالحق، فقال‏:‏ ‏{‏وآخرون اعترفوا بذنوبهم‏}‏ أي أقروا بها واعترفوا فيما بينهم وبين ربهم، ولهم أعمال أخر صالحة خلطوا هذه بتلك، فهؤلاء تحت عفو اللّه وغفرانه، وهذه الآية وإن كانت نزلت في أناس معينين، إلا أنها عامة في كل المذنبين الخطائين، وقد قال ابن عباس‏:‏ نزلت في أبي لبابة وجماعة من أصحابه تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غزوته، ربطوا أنفسهم بسواري المسجد، وحلفوا ألا يحلهم إلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلما أنزل اللّه هذه الآية‏:‏ ‏{‏وآخرون اعترفوا بذنوبهم‏}‏ أطلقهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعفا عنهم، وروى البخاري عن سمرة بن جندب قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لنا‏:‏ ‏(‏أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهيا بي إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء، قالا لهم‏:‏ اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قالا لي هذه جنة عدن وهذا منزلك، قالا‏:‏ وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً تجاوز اللّه عنهم‏)‏

 الآية رقم ‏(‏103 ‏:‏ 104‏)‏

‏{‏ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ‏.‏ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم ‏}‏

أمر تعالى رسوله صلى اللّه عليه وسلم بأن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم بها ويزكيهم بها، وهذا عام وإن أعاد بعضهم الضمير في ‏{‏أموالهم‏}‏ إلى الذين اعترفوا بذنوبهم ‏"‏في اللباب‏:‏ أخرج ابن جرير‏:‏ وجاء أبو لبابة وأصحابه بأموالهم حين أطلقوا، فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه هذه أموالنا، فتصدق بها واستغفر لنا، فقال‏:‏ ‏(‏ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً‏(‏، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم‏}‏ الآية‏.‏ وعن قتادة‏:‏ أن هذه الآيات نزلت في سبعة‏:‏ أربعة منهم ربطوا أنفسهم، وهم أبو لبابة، ومرداس، وأوس ابن خزان، وثعلبة بن وديعة‏"‏‏.‏ ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة أن دفع الزكاة إلى الإمام لا يكون، وإنما كان خاصاً بالرسول صلى اللّه عليه وسلم، واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ الآية، وقد رد عليهم أبو بكر الصديق وقاتلهم حتى أدوا الزكاة كما كانوا يؤدونها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، حتى قال الصديق‏:‏ واللّه لو منعوني عناقاً - وفي رواية عقالاً - كانوا يؤدونها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأقاتلنهم على منعه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وصل عليهم‏}‏ أي ادع لهم واستغفر لهم، كما رواه مسلم في صحيحه عن عبد اللّه بن أبي أوفى قال‏:‏ كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا أتى بصدقة قوم صلى عليهم فأتاه أبي بصدقته، فقال‏:‏ ‏(‏اللهم صل على آل أبي أوفى‏)‏، وفي الحديث الآخر‏:‏ أن امرأة قالت‏:‏ يا رسول اللّه صل عليّ وعلى زوجي، فقال‏:‏ ‏(‏صلى اللّه عليك وعلى زوجك‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إن صلاتك سكن لهم‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ رحمة لهم، وقال قتادة‏:‏ وقار، وقوله‏:‏ ‏{‏واللّه سميع‏}‏ أي لدعائك ‏{‏عليم‏}‏ أي بمن يستحق ذلك منك ومن هو أهل له، ‏{‏ألم يعلموا أن اللّه هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات‏}‏، هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منها يحط الذنوب ويمحصها ويمحقها، وأخبر تعالى أن كل من تاب إليه تاب عليه، ومن تصدق بصدقة من كسب حلال فإن اللّه يتقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها، حتى تصير التمرة مثل أُحد، كما جاء في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إن اللّه يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره، حتى أن اللقمة لتكون مثل أُحد‏)‏، وتصديق ذلك في كتاب اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ألم يعلموا أن اللّه هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏105‏)‏

‏{‏ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ‏}‏

قال مجاهد‏:‏ هذا وعيد من اللّه تعالى للمخالفين أوامره، بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى، وعلى الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى المؤمنين، وهذا كائن لا محالة يوم القيامة، كما قال‏:‏ ‏{‏يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم تبلى السرائر‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏وحصل ما في الصدور‏}‏، وقد يظهر اللّه تعالى ذلك للناس في الدنيا كما قال الإمام أحمد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة، لأخرج اللّه عمله للناس كائناً ما كان‏)‏، وقد ورد‏:‏ أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ، كما ورد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات، فإن كان خيراً استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا‏:‏ اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد والطيالسي‏"‏‏.‏ وقال البخاري‏:‏ قالت عائشة رضي اللّه عنها‏:‏ إذا أعجبك حسن عمل امرئ مسلم فقل‏:‏ ‏{‏اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون‏}‏، وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إذا أراد اللّه بعبده خيراً استعمله قبل موته‏)‏، قالوا‏:‏ يا رسول اللّه وكيف يستعمله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد عن أنس ابن مالك‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏106‏)‏

‏{‏ وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم ‏}‏

قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ هم الثلاثة الذين خلفوا، أي عن التوبة، وهم مرارة بن الربيع و كعب بن مالك و هلال بن أمية ، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد كسلاً وميلاً إلى الدعة والحفظ وطيب الثمار والظلال، لا شكاً ولا نفاقاً، فكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري كما فعل أبو لبابة وأصحابه، وطائفة لم يفعلوا ذلك، وهم الثلاثة المذكورون، فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء، وأرجي هؤلاء عن التوبة، حتى نزلت الآية الآتية وهي قوله‏:‏ ‏{‏لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار‏}‏ الآية، ‏{‏وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت‏}‏ الآية، كما سيأتي بيانه في حديث كعب بن مالك، وقوله‏:‏ ‏{‏إما يعذبهم وإما يتوب عليهم‏}‏ أي هم تحت عفو اللّه إن شاء فعل بهم هذا، وإن شاء فعل بهم ذاك، ولكن رحمته تغلب غضبه، ‏{‏واللّه عليم حكيم‏}‏ أي عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو، ‏{‏حكيم‏}‏ في أفعاله وأقواله لا إله إلا هو ولا رب سواه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏107 ‏:‏ 108‏)‏

‏{‏ والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون ‏.‏ لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ‏}‏

 سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب وكان قد تنصر في الجاهلية، وقرأ علم أهل الكتاب، وله شرف في الخزرج كبير، فلما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه، وصارت للإسلام كلمة عالية، وأظهرهم اللّه يوم بدر، شرق اللعين أبو عامر بريقه، وبارز بالعداوة وظاهر بها، وخرج فاراً إلى كفار مكة من مشركي قريش، يمالئهم على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام أحد، فكان من أمر المسلمين ما كان وامتحنهم اللّه عزَّ وجلَّ، وكانت العاقبة للمتقين، وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين،

فوقع في إحداهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأصيب ذلك اليوم فجرح وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى، وشج رأسه صلوات اللّه وسلامه عليه، وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا‏:‏ لا أنعم اللّه بك عيناً يا فاسق يا عدو اللّه، ونالوا منه وسبوه، فرجع وهو يقول‏:‏ واللّه قد أصاب قومي بعدي شر، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد دعاه إلى اللّه قبل فراره وقرأ عليه من القرآن، فأبى أن يسلم وتمرد، فدعا عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يموت بعيداً طريداً، فنالته هذه الدعوة‏.‏ وذلك لما فرغ الناس من أحد، ورأى أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى اللّه عليه وسلم، فوعده ومنَّاه وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم عنده لأداء كتبه، ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى تبوك، وجاءوا فسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية، فعصمه اللّه من الصلاة فيه فقال‏:‏ ‏(‏إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء اللّه‏)‏، فلما قفل عليه السلام راجعاً إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أسس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة؛ كما قال ابن عباس في الآية‏:‏ هم أناس من الأنصار بنوا مسجداً، فقال لهم أبو عامر‏:‏ ابنوا مسجداً واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجنود من الروم وأخرج محمداً وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا‏:‏ قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏لا تقم فيه أبدا‏}‏ الآية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليحلفن‏}‏‏:‏ أي الذين بنوه، ‏{‏إن أردنا إلا الحسنى‏}‏ أي ما أردنا ببنيانه إلا خيراً ورفقاً بالناس، قال تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه يشهد إنهم لكاذبون‏}‏ أي فيما قصدوا وفيما نووا، وإنما بنوه ضراراً لمسجد قباء، وكفراً باللّه وتفريقاً بين المؤمنين، وإرصاداً لمن حارب اللّه ورسوله من قبل، وهو أبو عامر الفاسق لعنه اللّه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا تقم فيه أبدا‏}‏ نهي له صلى اللّه عليه وسلم والأمة تبع له في ذلك عن أن تقوم فيه‏:‏ أي يصلي أبداً، ثم حثه على الصلاة بمسجد قباء الذي أسس من يوم بنيانه على التقوى، وهي طاعة اللّه وطاعة رسوله وجمعاً لكلمة المؤمنين وموئلاً للإسلام وأهله، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه‏}‏، والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏صلاة في مسجد قباء كعمرة‏)‏، وفي الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يزور مسجد قباء راكباً وماشياً، وفي الحديث‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما بناه وأسسه أول قدومه ونزوله على بني عمرو بن عوف، كان جبريل هو الذي عين له جهة القبلة واللّه أعلم‏.‏

قال الإمام أحمد، عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال‏:‏ ‏(‏إن اللّه تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به‏؟‏‏)‏ فقالوا‏:‏ واللّه يا رسول اللّه ما نعلم شيئاً إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا‏.‏ وقد صرح بأنه مسجد قباء جماعة من السلف منهم ابن عباس وعروة بن الزبير وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم والشعبي والحسن البصري وسعيد بن حبان وقتادة وغيرهم ‏.‏ وقد ورد في الحديث الصحيح أن مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذي في جوف المدنية هو المسجد الذي أسس على التقوى؛ وهذا صحيح، ولا منافاة بين الآية وبين هذا لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، عن سهل بن سعد الساعدي قال‏:‏ اختلف رجلان على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى، أحدهما قال‏:‏ هو مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال الآخر‏:‏ هو مسجد قباء، فأتيا النبي صلى اللّه عليه وسلم فسألاه فقال‏:‏ ‏(‏هو مسجدي هذا‏)‏ وفي رواية أخرى عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال أحدهما‏:‏ هو مسجد قباء، وقال الآخر‏:‏ هو مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هو مسجدي هذا‏)‏ ‏"‏رواهما الإمام أحمد رضي اللّه عنه‏"‏‏.‏ وقال الإمام أحمد، عن أبي سعيد عن أبيه أنه قال‏:‏ تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل‏:‏ هو مسجد قباء، وقال الآخر‏:‏ هو مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هو مسجدي‏)‏ ‏"‏رواه أحمد والترمزي والنسائي‏"‏‏.‏

طريق آخر ‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى عن أنيس بن يحيى، حدثني أبي، قال‏:‏ سمعت أبا سعيد الخدري قال‏:‏ اختلف رجلان، رجل من بني خدرة، ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدري‏:‏ هو مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال العمري‏:‏ هو مسجد قباء، فأتيا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسألاه عن ذلك، فقال‏:‏ ‏(‏هو هذا المسجد‏)‏، لمسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال في ذلك يعني مسجد قباء، وقد قال‏:‏ بأنه مسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم جماعة من السلف والخلف، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد اللّه، وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، واختاره ابن جرير، وقوله‏:‏ ‏{‏لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين‏}‏، دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة اللّه وحده لا شريك له، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء، والتنزه عن ملابسة القاذورات، وقال الإمام أحمد‏:‏ عن رجل من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلى بهم الصبح، فقرأ الروم فيها فأوهم، فلما انصرف قال‏:‏ ‏(‏إنه يلبس علينا القرآن، إن أقواماً منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء، فمن شهد الصلاة معنا، فليحسن الوضوء‏)‏، فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها، وقال أبو العالية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه يحب المطهرين‏}‏ إن الطهور بالماء لحسن ولكنهم المطهرون من الذنوب، وقال الأعمش التوبة من الذنوب والتطهر من الشرك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏109 ‏:‏ 110‏)‏

‏{‏ أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين ‏.‏ لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ لا يستوي من أسس بنيانه على تقوى من اللّه ورضوان، ومن بنى مسجد

ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين، فإنما يبني هؤلاء بنيانهم على شفا جرف هار، أي طرف حفيرة في نار جهنم، ‏{‏واللّه لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ أي لا يصلح عمل المفسدين، قال جابر‏:‏ رأيت المسجد الذي بني ضراراً يخرج منه الدخان على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال ابن جريج‏:‏ ذكر لنا أن رجالاً حفروا فوجدوا الدخان الذي يخرج منه، وكذا قال قتادة‏.‏

وقال خلف الكوفي‏:‏ رأيت مسجد المنافقين الذي ذكره اللّه تعالى في القرآن، وفيه جحر يخرج منه الدخان وهو اليوم مزبلة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم‏}‏ أي شكاً ونفاقاً بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع، أورثهم نفاقاً في قلوبهم كما أُشرِب عابدو العجلِ حبَّه، وقوله‏:‏ ‏{‏إلا أن تقطع قلوبهم‏}‏ أي بموتهم، قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد من السلف، ‏{‏واللّه عليم‏}‏ أي بأعمال خلقه، ‏{‏حكيم‏}‏ في مجازاتهم عنها من خير وشر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏111‏)‏

‏{‏ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ‏}‏

يخبر تعالى أنه عاوض من عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم - إذ بذلوها في سبيله - بالجنة، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه، فإنه قبل العَوْض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له‏.‏ ولهذا قال الحسن البصري وقتادة‏:‏ بايعهم واللّه فأغلى ثمنهم، وقال شمر بن عطية‏:‏ ما من مسلم إلا وللّه عزَّ وجلَّ في عنقه بيعة وفى بها أو مات عليها، ثم تلا هذه الآية، وقال عبد اللّه بن رواحة رضي اللّه عنه لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعني ليلة العقبة‏:‏ اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال‏:‏ ‏(‏أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم‏)‏، قالوا‏:‏ فما لنا إذا فعلنا ذلك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الجنة‏)‏، قالوا‏:‏ ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت‏:‏ ‏{‏إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون‏}‏ أي سواء قَتَلوا أو قُتلوا، أو اجتمع لهم هذا وهذا، فقد وجبت لهم الجنة، ولهذا جاء في الصحيحين‏:‏ ‏(‏تكفّل اللّه لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاداً في سبيلي وتصديق برسلي بأن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن‏}‏ تأكيد لهذا الوعد، وإخبار بأنه قد كتبه على نفسه الكريمة وأنزله على رسله في كتبه العظيمة وهي ‏{‏التوراة‏}‏ المنزلة على موسى، و‏{‏الإنجيل‏}‏ المنزل على عيسى، و‏{‏القرآن‏}‏ المنزل على محمد صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن أوفى بعهده من الله‏}‏ فإنه لا يخلف الميعاد، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏ومن أصدق من اللّه حديثا‏}‏، ‏{‏ومن أصدق من اللّه قيلا‏}‏، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم‏}‏ أي فليستبشر من قام بمقتضى هذا العقد، ووفى بهذا العهد، بالفوز العظيم والنعيم المقيم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏112‏)‏

‏{‏ التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ‏}‏هذا نعت المؤمنين الذين اشترى اللّه منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة والخلال الجليلة، ‏{‏التائبون‏}‏ من الذنوب كلها، التاركون للفواحش، ‏{‏العابدون‏}‏ أي القائمون بعبادة ربهم محافظين عليها، ومن أخصها الحمد للّه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏الحامدون‏}‏، ومن أفضل الأعمال الصيام، وهو ترك الملاذ من الطعام والشراب والجماع، وهو المراد بالسياحة ههنا، قال‏:‏ ‏{‏السائحون‏}‏ كما وصف أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سائحات‏}‏ أي صائمات، وكذا الركوع والسجود وهما عبارة عن الصلاة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏الراكعون الساجدون‏}‏، وهم مع ذلك ينفعون خلق اللّه ويرشدونهم إلى طاعة اللّه بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركه، وهو حفظ حدود اللّه في تحليله وتحريمه علماً وعملاً، فقاموا بعبادة الحق ونصح الخلق، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ لأن الإيمان يشمل هذا كله، والسعادة كل السعادة لمن اتصف به، والسياحة يراد بها الصيام فقد سئل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن السائحين‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏هم الصائمون‏)‏، وهذا أصح الأقوال وأشهرها‏.‏ وجاء ما يدل على أن السياحة الجهاد، وهو ما رواه أبو داود في سننه من حديث أبي أمامة أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول اللّه ائذن لي في السياحة، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سياحة أمتي الجهاد في سبيل اللّه‏)‏ وعن عكرمة أنه قال‏:‏ هم طلبة العلم، وقال ابن أسلم‏:‏ هم المهاجرون، وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض، والتفرد في شواهق الجبال، والكهوف والبراري، فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام الفتن والزلازل في الدين، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال‏:‏ أي رؤوس الجبال‏"‏ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن‏)‏، وقال ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏والحافظون لحدود الله‏}‏ قال‏:‏ القائمون بطاعة اللّه، وكذا قال الحسن البصري، وعنه قال‏:‏ لفرائض اللّه، والقائمون على أمر اللّه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏113 ‏:‏ 114‏)‏

‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ‏.‏ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ‏}‏

لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد اللّه ابن أبي أمية فقال‏:‏ ‏(‏أي عم‏!‏ قل‏:‏ لا إله إلا اللّه، كلمة أحاج لك بها عند اللّه عزَّ وجلَّ‏)‏، فقال أبو جهل وعبد اللّه بن أبي أمية‏:‏ يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب‏؟‏ فقال‏:‏ أنا على ملة عبد المطلب‏!‏ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لأستغفرن لك ما لم أنه عنك‏)‏، فنزلت‏:‏ ‏{‏ما كان

للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم‏}‏، قال، ونزلت فيه‏:‏ ‏{‏إنك لا تهدي من أحببت ولكن اللّه يهدي من يشاء‏}‏ ‏"‏أخرجه الشيخان وأحمد عن ابن المسيب‏"‏‏.‏ وقال الإمام أحمد، عن ابن بريدة عن أبيه قال‏:‏ كنا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ونحن في سفر، فنزل بنا ونحن قريب من ألف راكب، فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان، فقام إليه عمر بن الخطاب وفداه بالأب والأم وقال‏:‏ يا رسول اللّه ما لك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إني سألت ربي عزَّ وجلَّ في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي، فدمعت عيناي رحمة لها من النار، وإني كنت نهيتكم عن ثلاث‏:‏ نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها لتذكركم زيارتها خيراً، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فكلوا وأمسكوا ما شئتم، ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية فاشريوا في أي وعاء شئتم ولا تشربوا مسكراً‏)‏

وقال ابن أبي حاتم، عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوماً إلى المقابر، فاتبعناه فجاء حتى جلس إلى قبر منها، فناجاه طويلاً، ثم بكى فبكينا لبكائه، ثم قام إليه عمر بن الخطاب، فدعاه ثم دعانا فقال‏:‏ ‏(‏ما أبكاكم‏)‏‏؟‏ فقلنا‏:‏ بكينا لبكائك، قال‏:‏ ‏(‏إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي‏)‏، ثم أورده من وجه آخر وفيه‏:‏ ‏(‏وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي وأنزل عليَّ‏:‏ ‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا‏}‏ الآية، فأخذني ما يأخذ الولد للوالد، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة‏.‏

وقال ابن عباس في هذه الرواية‏:‏ كانوا يستغفرون لهم، حتى نزلت هذه الآية فأمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا، ثم أنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه‏}‏ الآية، وقال قتادة في الآية، ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم قالوا‏:‏ يا نبي اللّه إن من آبائنا من كان يحسن الجوار، ويصل الأرحام، ويفك العاني، ويوفي بالذمم، أفلا نستغفر لهم‏؟‏ قال‏:‏ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بلى، واللّه إني لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه‏)‏، فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين‏}‏، ثم عذر اللّه تعالى إبراهيم عليه السلام فقال‏:‏ ‏{‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه‏}‏ الآية، وقال الثوري، عن ابن عباس‏:‏ مات رجل يهودي وله ابن مسلم فلم يخرج معه، فذكر ذلك لابن عباس، فقال‏:‏ فكان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه ويدعو له بالصلاح ما دام حياً، فإذا مات وكله إلى شأنه، ثم قال‏:‏ ‏{‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه - إلى قوله - تبرأ منه‏}‏، ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود وغيره عن علي رضي اللّه عنه‏:‏ لما مات أبو طالب قلت‏:‏ يا رسول اللّه إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال‏:‏ ‏(‏اذهب فواره ولا تحدثن شيئاً حتى تأتيني‏)‏، فذكر تمام الحديث‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما تبين له أنه عدو اللّه تبرأ منه‏.‏ وفي رواية‏:‏ لما مات تبين له أنه عدو اللّه، وكذا قال مجاهد والضحاك، وقوله‏:‏ ‏{‏إن إبراهيم لأواه حليم‏}‏، قال ابن مسعود‏:‏ الأواه الدعَّاء؛ وقال ابن جرير‏:‏ قال رجل‏:‏ يا رسول اللّه ما الأواه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏المتضرع‏)‏، وقال الثوري‏:‏ سئل ابن مسعود عن الأواه، فقال‏:‏ هو الرحيم أي بعباد اللّه، وقال ابن عباس‏:‏ الأواه الموقن، بلسان الحبشة‏.‏ وعنه‏:‏ الأواه المؤمن‏.‏ وقال سعيد بن جبير والشعبي‏:‏ الأواه المسبّح، وعن أبي الدرداء رضي اللّه عنه قال‏:‏ لا يحافظ على سبحة الضحى إلا الأواه، وعن مجاهد‏:‏ الأواه الحفيظ، الرجل يذنب الذنب سراً ثم يتوب منه سراً، ذكر ذلك كله ابن أبي

حاتم رحمه اللّه‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ إن رجلاً كان يكثر ذكر اللّه ويسبح، فذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏إنه أواه‏)‏، وقال أيضاً عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم دفن ميتاً فقال‏:‏ ‏(‏رحمك اللّه إن كنت لأواهاً‏)‏ يعني تلاءً للقرآن، قال ابن جرير‏:‏ وأولى الأقوال قول من قال إنه الدعّاء وهو المناسب للسياق، وذلك أن اللّه تعالى لما ذكر أن إبراهيم إنما استغفر لأبيه مع شدة أذاه له في قوله‏:‏ ‏{‏أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا‏}‏ فحلم عنه مع أذاه له ودعا له واستغفر، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن إبراهيم لأواه حليم‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏115 ‏:‏ 116‏)‏

‏{‏ وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم ‏.‏ إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن نفسه الكريمة وحكمه العادل، إنه لا يضل قوماً إلا بعد إبلاغ الرسالة إليهم، حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأما ثمود فهديناهم‏}‏ الآية، قال ابن جرير‏:‏ يقول تعالى‏:‏ وما كان اللّه ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم المشركين بالضلال بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه فتتركوا، فأما قبل أن

يبين كم كراهة ذلك فإنه لا يحكم عليكم بالضلال، فإن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهي، وأما من لم يؤمر ولم ينه فغير كائن مطيعاً أو عاصياً فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللّه له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون اللّه من ولي ولا نصير‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ هذا تحريض من اللّه لعباده المؤمنين في قتال المشركين وملوك الكفر، وأنهم يثقوا بنصر اللّه مالك السموات والأرض، ولا يرهبوا من أعدائه، فإنه لا ولي لهم من دون اللّه، ولا نصير لهم سواه‏.‏ وقال ابن أبي حاتم، عن حكيم بن حزام قال‏:‏ بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين أصحابه إذ قال لهم‏:‏ ‏(‏هل تسمعون ما أسمع‏؟‏‏)‏، قالوا‏:‏ ما نسمع من شيء، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط، وما فيها من موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم‏)‏

 الآية رقم ‏(‏117‏)‏

‏{‏ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم ‏}‏

نزلت هذه الآية في غزوة تبوك، وذلك أنهم خرجوا إليها في سنة مجبة وحر شديد، وعسر من الزاد والماء، عن عبد اللّه بن عباس قال‏:‏ قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة، فقال عمر خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً فأصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، وحتى وإن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ إن اللّه عزَّ وجلَّ قد عوّدك في الدعاء خيراً فادع لنا، فقال‏:‏ ‏(‏تحب ذلك‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ نعم، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سالت السماء فأهطلت ثم سكنت،

فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر ‏"‏أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما‏"‏، قال ابن جرير في قوله‏:‏ ‏{‏لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة‏}‏ أي من النفقة والظهر والزاد والماء، ‏{‏من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم‏}‏ أي عن الحق، ويشك في دين الرسول صلى اللّه عليه وسلم، ويرتاب للذي نالهم من المشقة والشدة في سفرهم وغزوهم، ‏{‏ثم تاب عليهم‏}‏ يقول‏:‏ ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم والرجوع إلى الثبات على دينه ‏{‏إنه بهم رؤوف رحيم‏}‏‏.‏